أشرتُ في ختام الفصل السابق إلى أن فرعونَ عندما رأى عصا موسى انقلبت حية وابتلعت ما قدمه السَّحَرة من السحر العظيم، وآمن السحرة بربِّ العالمين رب موسى وهارون ولم تؤثِّرْ فيهم تهديدات فرعون بقطع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ، وصَلْبِهم في جذوع النخل، وثباتهم على الحق وسؤالهم الله عز وجل أن يفرغ عليهم صبرًا؛ ليتحملوا كلَّ ألوان العذاب من فرعون في سبيل إيمانهم بالله - أيقن فرعون أن ما جاء به موسى عليه السلام حقٌّ لا مرية فيه، واستيقن هو وملؤه أن موسى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثر ذلك في نفس فرعون خوفًا من أن يصيب موسى بأذى، واكتفى بتهديد موسى ووعيده، ويظهر ذلك جليًّا في قوله: ﴿ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ﴾ [غافر: 26]، فهل كان مربوطًا بحبل لا يتمكَّن بسببه من قتل موسى؟ لكنه التهديد الأجوف الدالُّ على أنه يحس أن موسى رسول الله، غير أنه وقومه أصروا على تشديد العذاب على بني إسرائيل، وازدادوا في تقتيل أبنائهم واستحياء نسائهم، وصان الله موسى عليه السلام من أن تناله يدُ فرعون، كما صان محمدًا صلى الله عليه وسلم من أبي جهل ومَن معه من أن تنال أيديهم رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وقد أوحى الله عز وجل إلى موسى وهارون أن يتبوَّأا لقومهما بمصر بيوتًا، وأن يجعلوا بيوتَهم قبلة، وأن يقيموا الصلاة، وأن يستمرَّ موسى عليه السلام في بشارة المؤمنين بنصر الله وتأييده، ولما أخذ فرعون يعلن عن تشديد العذاب المهين على بني إسرائيل وأنه لا بد من قهرهم، ﴿ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الأعراف: 128]، وقال قوم موسى له: أوذينا من قبل مجيئك بالرسالة ومن بعد مجيئك بها، قال لهم: ﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 129].
ولقد بدأت بشائرُ نصر الله لموسى ومن معه مَن المؤمنين فسلَّط الله على آل فرعون الجَدْبَ والقحط ونقص الثَّمرات لعلهم يُفيقون من غَيِّهم وضلالهم، لكنهم بدل ذلك صاروا يزعمون أن هذا الذي أصابهم هو بسبب مجيء موسى لهم واطَّيروا به وبمن معه، وأجابهم موسى عليه السلام بأن سبب بلائهم هو كفرهم وتكذيبهم رسل الله، وزعموا مرة أخرى أن هذا الجَدْبَ والقحط من سحر موسى، وأنهم لن يؤمنوا به أبدًا، فسلَّط الله عليهم الطوفانَ، فغرقت مزارعهم وهلكت ثمارهم، ولما انتهى الطوفان وبدأت الأرض تؤتي ثمارها سلَّط عليهم الجراد، فأباد زروعهم وثمارهم، ثمَّ سلَّط عليهم القُمَّل وهو صغار الذر، والدَّبى الذي لا أجنحة له، أو شيء صغير بجناح أحمر، وشيء خبيث الرائحة، فصار هذا القُمَّلُ يخالطهم في جميع أحوالهم لا يلمسون شيئًا إلا وجدوه فيه، ثم سلط الله عليهم الضفادع، فملأت بيوتهم وطعامهم وشرابهم، ثم سلط الله عليهم الدم، فصاروا لا يتناولون شيئًا إلا وجدوه مغيَّرًا بالدم، وقد امتزجت به مياههم ومطاعمهم.
وقد كان من آيات الله عز وجل أن صان بني إسرائيل من كلِّ هذه العقوبات، ولما اشتدَّ هذا البلاء بفرعون وملئه: ﴿ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الأعراف: 134]، لكنهم كانوا كلما كشف الله عنهم الضرَّ إذا هم ينكثون، ومع يقينهم بأن هذه آيات مفصلات من الله عز وجل جحدوا بها وضحكوا منها.
وقال فرعون لموسى: ﴿ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ﴾ [الإسراء: 101]، فقال له موسى: لقد علمت أن هذه الآيات التسع؛ وهي العصا واليد وما جاء بعدهما من السنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمَّل والضفادع والدم كلها من الله عز وجل لعلكم تهتدون ﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [الإسراء: 102]؛ أي: هالكًا بسبب كفرك وضلالك، ودعا موسى عليه السلام على فرعون وقومه فقال: ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ﴾ [يونس: 88]، فبدل أن يشكروك عليها استعملوها في الصدِّ عن سبيلك، ﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ﴾؛ أي: أهلكها، ﴿ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾؛ أي: اطبع عليها ﴿ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88]، وقد بلغ موسى عليه السلام هذه الحال في الوقت الذي رأى فرعون أنه لا بد من إعلان الحرب على موسى، وأرسل فرعون في المدائن حاشرين، يجمعون العُدَّة والسلاح والرجالَ للقضاء على موسى وهارون ومن معهما من بني إسرائيل من المؤمنين باذلًا كلَّ ألوان الإغراء بهم.
وقد أوحى الله عز وجل إلى موسى أن يخرج من مصر ليلًا ببني إسرائيل مسرعين إلى سيناء، وأعلمه أن فرعون وجنوده سيتبعونهم، فسارع موسى عليه السلام إلى امتثال أمر ربه، فسرى ببني إسرائيل، ولما اجتمع جندُ فرعون سارعوا إلى اللحاق بموسى عليه السلام يقودهم فرعون عليه لعنة الله، فأتبعوهم مشرقين، أي: وقت شروق الشمس، وقد كان موسى عليه السلام ومن معه وصلوا إلى مكان عسير؛ فالبحر أمامهم والعدوُّ خلفهم والجبال عن يمينهم وشمالهم، ﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ ﴾ جَمْع موسى وجَمْع فرعون ﴿ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61]، أي: سيكون هلاكنا على يد فرعون وجنده هنا؛ لأنه لا مفرَّ لنا، فأجابهم موسى عليه السلام وقال لهم: كلا لن يدركونا، ولن يصلوا إلينا؛ لأن الله وعدني بذلك، وأراد موسى عليه السلام بذلك وعد الله له حيث أجابه عندما قال موسى: ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ﴾ [طه: 45، 46]؛ ولذلك لما قال له أصحابه: ﴿ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ ﴾ [الشعراء: 61] أجابهم بقوله: ﴿ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الشعراء: 62].
فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك البحر، فضربَ موسى البحر بعصاه فانفلقَ، فكان كلُّ فِرق كالطَّود العظيم، أي: كالجبل العظيم، فجعل الله لهم بذلك طريقًا في البحر يبسًا لا يخاف دركًا ولا يخشى، وصار موسى ومن معه يمشون على أرض صلبة يابسة، على كلِّ جانب من جوانب طريقهم جدار من الماء كأنه صخرٌ منحوت، وعندما خرج موسى ومن معه من البحر أمره الله عز وجل أن يترك البحر ساكنًا حتى يدخل فيه فرعون وجنوده، فلما صار فرعون وجنوده في اليَم غشيهم من اليمِّ ما غشيهم، وأضل فرعون قومه وما هدى، ولما أدركَه الغرق قال: ﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [يونس: 90]، فلم ينفعْه هذا الإيمان، ولم يخلصه من عذاب الله، ورمى البحر بجثته ليراها من بقي من قومه؛ ليعرفوا قدرة الله عليه، وكان ذلك في يوم عاشوراء.
وإلى الفصل القادم إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.